الخميس، 15 ديسمبر 2011

كشيشة حمام ..

.. قبل ربع قرن من الآن كنت طفلا .. وكنت أراقب كل شيء يدور في ( الحارة ) وكانت العادة المنتشرة في تلك الحقبة هواية ( كش الحمام ) ولمن لا يعرف هذه الهواية دعوني استذكر بعضا من قوانينها لأوضحها لكم .. فالحمام كما تعلمون يا سادة يا كرام ينقسم الى عدة أنواع حسب ( الأصول والمنابت ) فمنه الحمام الزاجل الذي استخدمه أسلافنا في مراسلاتهم عبر الأثير , ومنه الحمام البلدي الذي يربى على أسطح المنازل بهدف انتاج ( الزغاليل ) وبهدف التخلص من الطعام الزائد واطعامه له , والنوع الأخير ( حمام الكش ) والذي هو موضوع حديثنا لهذا اليوم وهو لم يكن يوما رمزا للسلام بل كانت تنشأ الحروب بسببه .. ولحمام الكش انواع ايضا تفوق ال70 موديل , ولكل موديل ميزات و تختلف اشكالها والوانها وتتنوع اسعارها حتى ان بعض انواع الحمام قد يصل سعرها الى سعر ( خروف بلدي ) فمنها ( البربريسي والمصري والفنر والأبلق والكشكشي والشخشلي والمسوّد والهمر ... وأسماء لها أول وليس لها آخر .. ويعرف كشيشة الحمام بعضهم البعض بحكم المهنة , ويعرف كل ( كشيش ) طيور منافسه حتى وهي في السماء , أما عن كيفية استخدام حمام الكش .. فيقوم ( الكشيش ) بإطلاق العنان لسربه في السماء ليحوم أعلى من سرب منافسيه .. وعند وجود ( طير ) منفرد في السماء الإقليمية لأحد الكشيشة فإن السرب سيحوم الى أن يضم ذلك الطير اليه .. عند ذلك يرفع الكشيش ( التخبيطة ) وهي أنثى حمام ضاعت كل حقوقها المدنية وأصبحت تستخدم لأغواء طيور الكش للنزول في ساحتها .. يلوح بها الكشيش للسرب ثم يلقيها ذليلة على الأرض فينجرف السرب - وكله ذكور - الى ذلك الموقع ليتقرب منها , عند ذلك ينثر ( الكشيش ) الحب عند باب ( الخم ) فيسارع كل الحمام بمن فيهم ( الطير الفالت ) الذي تم أسقاطه من السماء الى دخول الخم .. وهنا يقبض الكشيش على الطير الجديد ويعتبره غنيمة حرب .. فإذا جاء صاحب الطير وطلب طيره وجب عليه أن يدفع للكشيش ( فك رهن ) اما اذا كان بين الكشيش وصاحب الطير ( ضرب ) فقد ربح الكشيش هذه الجولة وسيستعد صاحب الطير ( لضرب ) طير من طيور ذلك الكشيش بنفس الطريقة .. لا أعرف ما الذي جعلني أكتب عن كش الحمام .. لكن قبل يومين سمعت في الأخبار ان ايران قد ( ضربت ) طير امريكي وأن امريكا تطالب بطيرها .. فهل ستفك رهنه ام أن بين الكشيشة ضرب ؟؟

السبت، 3 ديسمبر 2011

من ذكريات الشتاء الأليمة

.. وكأننا فقدنا الإحساس بالبردعندما انهمرت اول قطرات الغيث , فها نحن نتراكض في ( حارتنا ) ونغني ابتهاجا بالمطر : يارب تشتي يارب خلي العجايز تنضب ! ولم تكن كلمات الأغنية قد أتت من فراغ , ذلك أن عجائز حارتنا كن يتخذن من عتبات البيوت ( مضافات ) وترابط احداهن على عتبة الدار من طلوع الشمس حتى المغيب فلا يتسنى لنا كأطفال ممارسة أخطائنا بأريحية , فالعيون تراقبنا من كل العتبات المقدسة .. وأخيرا نزل المطر وحان موعد ( السبات الشتوي ) للعجائز , فتلملم كل منهن حوائجها وتدخل بيتها على عجل بحثا عن ( محقان الكاز ) لتجهيز المدفأة , ويبقى الأطفال في الشارع صارخين مهللين فرحا بالمطر الذي اسقط نظام العتبات , وتحتجب شمس ذلك اليوم باكرا على غير عادتها فيأوي كل طفل الى بيته ليقف بين يدي امه في ساعة الحساب , يأخذ كل طفل نصيبه من ( البرد ) والتوبيخ ثم تجتمع الأسرة حول المدفأة لتناول طعام العشاء وبعض الشاي , ثم يتسلل كل فرد الى فراشه ..

عندما ينتصف الليل وتهدأ الأجواء أشعر بوخزات البرد الذي (أكلته ) خلال النهار , فتبدأ العملية على شكل ( حلم ) فأرى في منامي ارض ناعمه جدا ( تتكرمش ) فجأة وتتخبط الأحلام فأشعر بالدوران و ( حموضة المعدة ) واحس بأن الغرفة تدور بمن فيها فأبدأ بالأنين المتقطع : يما ... يماا ... يمااااااااااااا , فتحس أمي بقلبها قبل أذنها والقلب يشعر قبل الأذن أحيانا .. فما هي الا لحظات لأجدها تقف فوق رأسي تتحسس جبهتي لتعرف مقدار ارتفاع الحرارة ( من غير ميزان ) ,, ثم تحملني من تحت ذراعي - كالريشة تحملها النسمات - وقد عرفت امي مسبقا انني على وشك ( الاستفراغ ) فأحضرت معها لوازم التفريغ والمسح .. وما هي الا لحظات حتى تنتهي المعانة , فتعطيني امي ( بلوزة ) اضافية وتلفني جيدا وتضيف عليى غطائي واحدا آخر ثم تنعم عليّ ببعض النصائح بأن لا اركض في الشارع طول النهار ..

في الصباح أشعر بالدفئ والتعافي , وأرغب بالركض تحت المطر , لكن خجلي من معاناة امي تلك الليلة يجذبني نحو المدفأة .. فاللهم ارحم والدينا كما ربونا صغارا ..